متابعةً للجدال الشيق الذي أطلقهُ الأساتذة الأفاضل على موقع “الجزائر 24″، وددتُ المساهمة بهذه المداخلة المتواضعة ليس كطرفٍ للدفاع عن نظرية ماركس القابلة للصواب والخطأ كغيرها من النظريات الوضعية النسبية، ولكن للدفاع عن الأخلاقيات التي سعت إليها النظرية لمواجهة التغول اللامتناهي للرأسمالية التجارية ثم الصناعية وبُلوغها درجة التوحش في منتصف القرن التاسع عشر حينما كان ماركس في أوج وهجه الفكري.
لا يمكن التطرق للنظرية الماركسية من فوق أريكة عاجية في القرن الواحد والعشرين والقفز على حقائق تاريخيةٍ هامةٍ يجبُ توضيحها للعامة حتى تُفهم على أقلِ تقديرٍ القيم الأخلاقية لنضالات ماركس الإنسان، والماركسية النظرية، بعيدًا عن المفاضلات الفكرية والأكاديمية والسياسية.
لا ينكر أحدٌ اليوم أنَّ الرأسمالية نفسُها بلغت أوج نعومتها من خلال تهذيبها اجتماعيًا من قِبل نقابات العمال، ومنظمات حقوق الإنسان اليسارية حتى في أعتى الدول الرأسمالية، لكن حالها كان مختلفًا في منتصف القرن التاسع عشر عندما عاش ماركس.
لم تجد المنظومة الرأسمالية الأوروبية في القرن التاسع عشر حرجًا بالبحث عن مصالحها الذاتية الأنانية، ضاربةً بالأخلاق الدينية والوضعية بعرض الحائط في سبيل تحقيق أرباحًا ولو على حساب أجساد العبيد السود، وعرق أبناء الطبقات الكادحة، ونهب المستعمرات إفريقيًا وآسيويًا بالسعي للسيطرة على مزيدٍ من المزارع والمراعي والمناجم بانتهاج سياسة التوسّع ذات الطابع الاستعماري، إلى غاية أن أصبحت دول الشمال الفقيرة، وبقدرة المنظومة الرأسمالية، أغنى عشرات المرات من دول الجنوب الغنية بالثروات البشرية والطبيعية، وفعلت المنظومة الرأسمالية ذلك في إطار “نهضوي” استعلائي واستغلالي يمر عبر تخريب الآخرين وسرقة ثرواتهم.
والمتتبع لحركية المنظومة الرأسمالية تاريخيًا، يجد أنّها زادت من اتساع رُقعة التفاوت بين مناطقٍ وأخرى، رغم تفاعلها الكوسموبوليتي الرِّبحي مع دول الأطراف، فاليوم مثلًا، أصبحت مناطقًا قليلةً في العالم أغنى بكثير من بقية المناطق وبشكلٍ حادٍ، كما زادت من الهوّة الاجتماعية بينَّ الأغنياء والفقراء، فمثلاً، أظهرت إحدى التقارير الصحفية التي أطلعت عليها قبل أيامٍ قليلةٍ أنَّ ثروة ثمانية أغنى أشخاص في العالم تعادل أو تفوق ثروة نصف سكان الكرة الأرضية المُقدر عددهم بحوالي أربعة مليارات نسمة.
كما فتحت المنظومة الرأسمالية الباب أمام نمو ظاهرة الاحتكار في السوق عوضًا عن المنافسة الحرة كما يدعي عادة الرأسماليون، ما أدى إلى منافسة غير متوازنة أسهمت بها البنوك العالمية والشركات الضخمة التي أصبحت تحتكر الاستثمار في المشاريع الضخمة وفي كافة القطاعات، وهو تحريف تام لوظيفة البنوك المتمثلة في الإيداع وإعطاء القروض، فالبنوك اليوم أصبحت قابضةً على الأسواق بمفردها أحيانًا أو بالتحالف “الكارتل” مع الشركات الضخمة أو مع شركات التملك “الهولدينغ” للسيطرة على الأسواق، والتحكم في العرض والطلب، ما أدى لاستنزاف جيوب العامة من الناس من خلال تقليل العروض المرغوبة من المستهلكين والرفع من الأسعار.
أما إذا ما نظرنا إلى المنجزات التي حققتها الرأسمالية في البلدان النامية، سنجدُ أنَّ أغلبية رؤوس الأموال للمؤسسات المحلية الكبرى لها ارتباطات بطريقةٍ أو بأخرى بالمراكز الأجنبية من خلال “كومبرادورية” قد تصل حد الكاريكاتورية أحيانًا.
كما أنَّ الدفاع عن حقوق المستهلك ورغباته المشروعة لا يعني تجاوز حقوق العمال المشروعة وهم المشاركون بعرقهم وبتعبهم في تحقيق مزيدٍ من الرفاهية للمستهلكين ولأصحاب العمل.
ولا يجب إغفال أنَّ هؤلاء العمال، وجُلَّ الطبقة العاملة في الدول الغربية، تنتمي أغلبيتها للدول النامية، بخاصة في بريطانيا التي يتواجد بها قبر ماركس، كما ذكرنا الدكتور مصطفى راجعي في رسالته، ولو نقوم بحسبةٍ بسيطةٍ، سنجد أن ما يُدفع للعمال مقابل جهودهم بصيانة قبر ماركس لا يساوي 10 بالمائة من المداخيل التي تجنيها “الجمعيات الخيرية” التي تستغل بطريقة أو أخرى شعبية ماركس بشكلٍ فاضحٍ.
فحرية الاستهلاك نفسها ليست مطلقة في النظام الرأسمالي، وإنما يُحددها الدخل الذي يحصل عليه الفرد في المجتمع، ويترتب على ذلك أن طبقة العمال التي تحصل على دخلٍ منخفضٍ؛ لا يمكنها أن تحصل إلا على الضروريات فقط.
وأوافق الدكتور مساهل عبد الرحمن فيما ذهب إليه في مقالته، فالارتكاز على رغبات المستهلك وحدها سيسبب تغيير في الذوق العام للمجتمع وفساد المنظومة الأخلاقية وتغولها على المنظومة القانونية والتشريعية التي تعتبر المسؤولة الرئيسية على تنظيم السوق، وتهذيب احتياجات المستهلكين من خلال اقرارها للسلع التي تتناسب مع الروح الأخلاقية والدينية والثقافية للمجتمع..
ولا يمكن تناول ماركس والماركسية، حسب رأيي إلا بتسبيق الأخلاقي على الإيديولوجي، وبفصل الشخص عن النظرية، فماركس الشخص ينحدرُ من جذورٍ أوروبيةٍ، ومن عائلةٍ ثريةٍ، ورغمَّ تمتعهِ بهذه المميزات فضلَّ تكريس جُلَّ حياته خدمة للمظلومين من العمال، والمستضعفين من الطبقات الكادحة، رغبةً منه بتحقيق العدالة الاجتماعية. ورتبَّ ماركس منظومته الاخلاقية بإعطاء الأولوية للأخلاق على المنافع الاقتصادية، فالسعّي للفضيلة الانسانية الجماعية عنده أهمُّ من السعّي للمنفعية الاقتصادية الفردانية السائدة في المنظومة الأخلاقية الرأسمالية، أو ما أطلقتُ عليه “أخلاق السوق” التي سببها التسابق الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات الرأسمالية ما جعل كل شيٍء في حياتنا حتى ما هو أخلاقي رهينة الطلب والعرض في السوق، وتحولت التوجهات الأخلاقية كالدين والسياسة إلى سلعٍ تتحكم بها السوق بوعيٍ منا أحيانًا وبلا وعيٍ أحيانًا أخرى.
وفي الختام أودُّ التذكير مجددًا أن مداخلتي هذه لا تأتي في إطار المفاضلات الفكرية والايديولوجية، فلا يمكننا أيضًا أن نغفل عن النجاحات المُحققة من الرأسمالية التي أظهرت مرونتها وقدرتها على التكيف مع المتغيرات الزمانية ومع التطورات المكانية كالخدمات والتكنولوجيا التي أسهمت بطريقة أو بأخرى باحتواء وإنقاذ الرأسمالية من الاندثار. كما أنَّ بعض الدول الرأسمالية على غرار دول اسكندينافيا انتهجت تركيبة اقتصادية فريدة خففت قليلًا من وتيرة الرأسمالية بالمزج ما بين اقتصاد السوق الحرة، والمصلحة الاجتماعية بصورة جديدة ومُبتكرة أفسحت المجال لخدمات اجتماعية من الدرجة الأولى من جهةٍ، وتوفير مجانية الأساسيات كالتعليم والعناية الصحية من جهةٍ أخرى.
ولكن تأتي مداخلتي هذه في إطار إنصاف ماركس الرجل، الذي لا يصحُّ إلا أن ترفع له القبعة مهما اتفقنا أو اختلفنا معه فكريًا، لأنه دافع ببسالةٍ عن حقوق المظلومين، والمستضعفين، في زمنٍ عرف توحش المنظومة الرأسمالية بصورة لا تشبه زماننا.
التدوينة لماذا الهجوم على ماركس؟ ظهرت أولاً على الجزائر 24.