مرّت، الأحد، أربعة عشرة سنة عن سقوط بغداد في يد المحتلّ الأمريكي، وخلافا للوعود التي راح يلوكها جماعة "جورج دبليو بوش" إثر الاطاحة بنظام الرئيس العراقي الراحل "صدّام حسين"، ظلّ المشهد العراقي واحدا متوحدا: إخفاقات متعاقبة ومستنقع ملوث بروائح كريهة تراكمت فيها إفرازات الطائفية والفساد والإرهاب والتخلف والجهل والفقر.
شكّل سقوط تمثال "صدام" البرونزي مساء التاسع أفريل 2003، بداية شوط فظيع ضاهى ما خلفه سقوط بغداد بين أيدي المغول بقيادة هولاكو عام 1259، وفي راهن نازف مأزوم، تتواصل كوابيس العراقيين الذين دشّنوا مرحلة ما بعد صدّام بـ "فضائح التعذيب في أبو غريب" وانتهوا منذ 2014 إلى بشاعة الجرائم التي يقترفها ما يسمى بـ "تنظيم الدولة" (داعش).
وعلى وقع مُنهك منذ سقوط العراق في البئر الأمريكي، فشلت وصفة "الاسلام السياسي الشيعي" في استخراج بلد الدجلة والفرات من أتون الفساد والدم والقتل والصفقات والخيانة والتصفيات الطائفية، ولم تنفع جولات التجميل التي سعى جمهوريو وديمقراطيو البيت الأبيض، واختيار "بوش" لـ "المالكي" ثمّ استبدال "أوباما" لـ "العبادي"، لم يُجد كل ذلك نفعا للتغطية على مهازل الديمقراطية المشوّهة التي بشّروا بها العراقيين غداة اجتياحهم بغداد.
وبلسان الواقع ووفق إفادات مراكز البحث ودوائر التحليل، فإنّ الوضع متردِ في عراق الراهن سياسيا واقتصاديا وتعليميا وأمنيا وهلّم جرا، وسط انقسامات رهيبة تفاقست معها كيانات ومليشيات وحشود، وسط اقتراب الأكراد من الانفصال.
ومنذ الإطاحة بحزب البعث الحاكم ونظام "صدام"، ظلت "بغداد" وباقي حواضر العراق الخبر الأمني الأول عالميا، ما جعل البلد يجترّ المشاكل والعواصف والأزمات على وقع تفجيرات وهجمات يومية اختلطت بمطبات اجتماعية كارثية، في صورة غول البطالة الجاثم والأمية الزاحفة في بلد اشتهر بتخريجه عددا لا متناه من المبدعين الفحول.
90 مليار دولار في مهبّ الريح
تشير إحصائيات دولية حديثة إلى أنّ العراق راح ضحية "فساد ممنهج" ابتلع ما يربو عن التسعين مليار دولار (..) على نحو جعل دولة "الجعفري" و"علاوي" و"المالكي" و"العبادي" تتصدّر الفساد عالميا، وترتب عن هذا الاستنزاف الدفع بربع سكان البلد إلى ما دون خط الفقر، هذا الأخير يتعملق في صور بشعة عبر محافظات العراق، ما جعل نتائج استطلاع حديث للرأي أجرته وزارة الخارجية الأميركية، تفيد أنّ 40% من العراقيين يعتقدون أنّ الولايات المتحدة تعمل على زعزعة الاستقرار في بلدهم والتحكم في موارده الطبيعية، بينما يؤكد ثلث العراقيين أن الولايات المتحدة تدعم الإرهاب بشكل عام وما يسمى بـ "تنظيم الدولة".
شوط أكثر قسوة
إذا كانت مرحلة حكم "صدام" موصوفة بـ "القسوة" و"التضييق"، فإنّ الشوط الذي تلا، جاوز كل صنوف القسوة، ففي آخر سنوات حكم "صدام" (1999 – 2002)، وصل إنتاج العراق من الحبوب إلى 3.5 مليون طن (فائض مليون طن عن حاجة البلاد آنذاك)، في المقابل، انحدر مستوى الإنتاج الزراعي بعد 2003 إلى أقل من 4 % !، وتخبطت 92.5 % من الأراضي العراقية تحت حمى التصحر، ما ضاعف الاستيراد إلى 24 مليار دولار!
والحاصل أنّ جوهرة بغداد التي بناها الخليفة العباسي "المنصور" بين عامي 762 و764 ميلادي، والتي تعدّ أكبر مدينة في العراق وثاني أكبر مدينة في الوطن العربي بعد القاهرة وثاني أكبر مدينة في آسيا الغربية بعد طهران، صارت ترزح بعد تدمير أتى على كل جوانب الحياة والتقدم في العراق، إذ جرى الفتك بـ 8230 منشأة مثل المدارس والمعاهد والكليات والمصانع ومراكز توليد الطاقة وتصفية وإسالة الماء ومراكز تصفية النفط والاتصالات والبث.
وكان حجم التدمير ونوعية المؤسسات التي دُمرت يدلان على قصد ورغبة مسبقة في تدمير أمة العراق.
فزّاعة "داعش"
بُعيد 23 شهرا على إعلان مصرع "أسامة بن لادن" وتقلص دور "القاعدة" لحساب أدوار جديدة مفاجئة لم تكن مرصودة آنذاك في "صخب الإرهاب"، أريد للعراق أن يقترن بأول ظهور لاسم "تنظيم الدولة" (داعش) بتاريخ التاسع أفريل 2013، وجرى في 29 جوان 2014 إعلان قيام (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ونُصّب "أبو بكر البغدادي" خليفة لهذا التنظيم المتطرّف.
واعتمد (الدواعش) على وحشية غير مسبوقة ضدّ ضحاياه، في وقت جرى توصيف "داعش" بـ "الممثل الأهم للفوضى الخلاقة التي انطلقت من العراق لتمتدّ إلى سوريا قبل أن تنهش ليبيا، ويقول دارسون أنّ (داعش) بمخالبه القاسية، هو منتج إرهابي منفصل عن "القاعدة" بعد أن كان جزءا منها، ثم أضيفت إليه أفكار جديدة إلى أن آل الوضع إلى هذا المزيج الذي يقترب من العصابات المنظمة منه إلى عمل جماعات العنف المسلح الدينية، بينما جزم من هجروا مناطق التوتر، أنّ (داعش) هي محض غطاء وهمي لعصابات وجماعات وكيانات مشبوهة.
ولم يكن "البغدادي" شيئا مذكورا قبل أن تقوم الولايات المتحدة برصد جائزة بقيمة عشرة ملايين دولار لمن يساهم في قتل أو إيقاف شبح (داعش)، هذه الأخيرة تحولت بشكل مريب وفي زمن قياسي إلى آلة بطش عابرة للحدود.
ولعلّ أكثر ملفات (داعش) غموضا هي تغلغلها في العراق، حيث جرت المحاربة بـ (دولة الرايات السوداء والخلافة النفطية) عبر سلسلة غير محدودة من جرائم القتل والاختطاف والإعدامات الميدانية، فضلا عن التنكيل بالمدنيين وتدمير المؤسسات المدنية والعسكرية في سوريا.
ولا يقلّ رأسمال هذا التنظيم الدموي المتمدّد عن الملياري دولار، جرى جمعه من بيع النفط الخام، المخدرات وغسيل الأموال والابتزاز والغنائم، وهناك حديث عن ثروة عينية لـ (داعش) من الذهب تقدر بـ 430 مليون دولار.