وكأنني أصَغَيْتُ منذ حوالي 30 سنة في مأتم عائلي، الى قريبٍ أَشْيَببٍ يتكلم عن جدّه المهندس وعن جيش مكة المكرمة الذي طُلِب منه تنظيمه .. لكن سرعان ما تناحرت اشراف الأراضي المقدسة تحت وَغادة العثمانيين وخَتْل الإنجليز في هَتْر الفرنسيين، تم إضمار الخيط في النسيان. كان فضولي كبيرا وازداد تعلُقي بهذه القصة بل حاولت الغوص محترزا ومحترسا من بعض الكتب المشرقية التي اتسمت بصناعة العَضْيَهة والمَثْلبة، خاصة وأنا أرى قريبا آخر، صحفي قديم في مصر، بمحفظته السوداء يشبه الى حد بعيد التأوُهَ والتنكيل الفكري وعيش الغائِلة اللامنتهية مع الشروق المظلم في الجزائر. من حكاية الى حكاية وجدت نفسي في اشتباكات فرنسا مع أعراش قالمة من 1836 و1842 وآخرتهم 1852 تاريخ التثبيط والتخييب ... وجدت أيضا الكتاب الكريم والقتل الهمجي في ثكنة قالمة، وبدون سبب، لشيوخ قبيلة الكبالتية حفظة القرآن. كان ذلك الحادث أليما ويختلف البعض في تحديده لكن قسط من الدلائل تقودنا الى حوالي 1859؟ تقول جدتي أن الرؤوس بقيت تتلو الآيات وهي منفصلة عن أجسادها ... نهار الفاجعة كان كلَيلِها ...فاجعة بطَيْسلِها وغَسقها في ذلك الهتك لحياة الطلبة (بضم الطاء) وما لهم من مكرمة وسمات. وحتى في البادية (صفاحلي)التي اجتثوهم منها حفاة، بل مُصَّفدين أغلالا على جمر الحصى حتى الى قالمة (25كلم) ، سمع الناس عويل ذئب مع غروب شهادتهم واستشهادهم ... نعم هو ذئب لا أسودٌ ولا رماديٌ بل كان مسعورا ، طَفِقَ جائعا على المصلى ليقتات لوحا ، مصحفا ومدادا ، فسَبَر بالفكرة فأراد أن يعض مصحفا فأوهطته الصاعقة بِبَرَقٍ مجمدةً أنيابه في الرَّف ...أنا وأنا وأنا والله لثلاث ... أسللسها بهذا الشكل ولا داعي للذهاب ليلا لتلك الأماكن خاصة لا أنتمي انتمى لِلَفيف و لَمَّة المنافقين ... لأن صورته ( الهاء للذئب) بقيت تشتبك مع الزمان و ما يسمى الآن بـ "عواقة لذياب" الا سندا وإثباتا لذلك . انا أقص عليكم أحسن قصص بلادنا والجزء الذي أعرفه ولا أَدَّعي أنني وضعت يدي على حضرموت أو بحر الغزال ...أقصها بكل صدق لأن أثر هذا الاغتيال الدميم الذميم اعترفت فرنسا بذنبها فيه فحاولت جبره ورتقه ببناء مدرسة وتعويض أراضي في منطقة سوق اهراس بل وتكوين بعض أعضاء القبيلة كي يكونوا مترجمي القضاة ... امتدادا لهذا، أُعطيت لهم لقب قاضي بعد إقرار الحالة المدنية الاستعمارية. في تلك الأسر التي انفجرت عقب استشهاد حكمائها وأئمتها ولد الحاج قاضي الشريف بن العربي في 1865 وليس في 1867. تلميذ ذكي رياضياتي التفكير أصبح في 1887 أول مهندس مسلم متعدد التقنيات بدبلوم من المدرسة التقنية العليا بباريس. لم يشهد التاريخ في ذلك الوقت لا في انجلترا ولا فرنسا أن تخَّرَج جزائريا او قحطانيا او تركيا او باكستانيا في هذا الاختصاص. تزامن هذا التخَّرج بقبول قاضي الجنسية الفرنسية ودخول الجيش وهو الحدث الذي أثار غضبا وكَمَدًا بين أفراد قبيلته ضانين أنه سيأتي يوم لينازلهم ويبطش بهم، أيعقل هذا؟ هل ابن القبيلة أضحى خائنا لروح جده التي آضَت ثم اضحت زيتًا يُشعل آمال السراج في دَيْجور الضياع والاندثار. البتَّة أبدَا؟ كان كره الشريف قاضي شديدا للعثمانيين الذين وصفهم بالمغول وحَنَق ذماً فيهم وفي خمولهم وتلَبُدهم وبلادتهم لأنهم لم يصنعوا لا طبيبا ولا عالما في الجزائر ولم يشّقّو طريقا ولم يحفروا بئرا ... وتأثر كثيرا بكلام أمه وبلصوص الجانيسار او الإنكشاريين الذي كان يرسلهم باي قسنطينة المجرم محمد باي ميلي بوشطابية (نوع من الشاقور) وبعده أسلافه لسرقة عُزَل الديار. قاضي الشريف هو مهندس وكولونيل وأول ديبلوماسي من جنسنا وكاتب: ألف أغلى كتاب وهو أرض الاسلام (ثمنه 1300 دولار) وأول صحفي جزائري بمستوى مدرسة عليا ولا داعي للمقارنة مع الإجازة المصرية، كتب باسم مستعار في جريدة (لافوا دي هامبل) (صوت البسطاء) التي أسسها المعلمون الجزائريون الأنديجان في 1922: كتب بعد ذلك باسمه، بعد مغادرته الجيش، في " لافو دي انديجان" ( صوت الأنديجينا ) بقسنطينة التي تأسست في 1929 . هو أصلا غادر الجزائر ولم يرها منذ 1881 حتى 1920، ورجع الى فرنسا لبعض الوقت بعد تقاعده في 1925. ربما أنه حجا خَمالة وتخمينا بأن فرنسا هي التي ستنصف الجزائريين بعدما أوهمت الأعراش بعدالتها ثم قسمتهم لتسيطر عليهم وعلى أقاليمهم. قاضي الشريف (1865 صفاحلي قالمة -1939 عنابة) لم يذكر عنصرية فرنسا بل تكلم على مزايا الجمهورية، ولكن في رسالة الى صديق فرنسي ذكر تلك العنصرية التي واجهها في الجيش وهو الذي اشتهر بأحسن قيادة للفيالق في الحرب العالمية الاولى ... لكن، ورغم انه من حقه رتبة جنرال، لم يتحصل عليها كونه مسلما، وكان من وراء رفض ترقيته الرئيس الفرنسي « اليكسندر ميليران" في 1920 . مكّة المكرّمة التي أحبّها في الحلقة المقبلة سنتكلم على مكة المكرمة التي أحبها وقال ان السماء فيها قريبة جدا لليد. سنتكلم على الهاشميين وشريف مكة جدّ ملك الأردن الحالي والذي كان يحترمه كثيرا ويحترم الجزائريين والذي يهمنا هو لقاؤه بالأمير فيصل ابن عبد العزيز في 1926 . في الحقيقة عندما أتى السعوديون الى إدراة لحجاز وجدوا فينا اول الاصدقاء وكانت علاقتنا معهم بلا نفقق .... وسنرى ما هو الذي لم يدوّن ولم يسجل حتى في كتابات الملك عبد العزيز، لان ذلك بقى سرّا مدفونا في جبل صفاحلي الجزائر . الحلقة 2 في عدد الخميس المقبل...