أصعب ما يقوم به الصحفي في مهنته وضع عنوان لمنتجه اليومي ، سواء لتقرير صحفي صالح للبث في التلفزيون أو عنوان لملف صحفي متعدد الأشكال الصحفية صالح للنشر في عدد يوم الجمعة على سبيل المثال ، أو عنوان رئيسي لنشرة إخبارية في موعد الثامنة أو الثامنة والنصف .
هكذا هي العناوين الصحفية تختزل ما يكتبه الصحفي إما لموضوع من 350 إلى 400 كلمة أو لعدد من المقالات يتم جمعها في شكل ” كراس” أو” ملف ” من 2800 إلى 3000 كلمة ، أو تقرير تلفزيوني من 100 إلى 150 كلمة أو أكثر بقليل من الكلمات.
في الصحافة يتم اختزال كل الأخبار ظاهريا إلى عدد من الكلمات يتم احتسابها طبعا ” كثر خير الكمبيوتر” الذي بفضله تتوقف القريحة عن صناعة المعلومة عندما ينبئك في الجهة السفلى من ورقة الوورد بان عدد الكلمات وصل إلى مبتغى الوسيلة الإعلامية ، لا إضافة لا نقصان ، وهنا استحضر دهشة الزميل الإعلامي مروان الوناس عندما كتبت تقريرا مدته 13 دقيقة عن حدث في 2012 وقبيل الانتخابات البرلمانية يتعلق باتحاد أحزاب إسلامية أطلق عليه ” تكتل الجزائر الخضراء ” وقتها قال لي بالحرف الواحد :” بزاف فتيحة ، كتبت جرنان هذا للتلفزيون مشي للصحيفة ” ، لحظتها تعلمنا من الأستاذ الوناس بأنه :”وقت العمل لا محاباة حتى في إضافة كلمة أو كلمتين أو إطالة التصريحات المصورة ” فلا يعرف سوى منطق أبجديات المهنة ، وقتها كان يشغل منصب رئيس تحرير في قناة الشروق ، قبل أن تصبح قناة ” الشروق نيوز ” فعندما تقع عينه على تصحيح تقرير صحفي ، عليك بضبط النفس والإنصات جيدا ، فبعد أن يثني على المجهود المبذول بعبارات الشكر والعرفان المقتضبة ، يباغتك برفع صوته وبكلمات ” رياضية ” ، حيث لا يتسامح مع عدد الدقائق التي جهزتها لتكون صالحة للبث ، كلمة ” بزاف ” يكررها مع إيماءة الوجه ” غير الراضية على مدة العرض ” عندما ينتهي من الاطلاع على كامل التقارير التي سيتم بثه في النشرة الرئيسية ، بالنسبة له عدد الدقائق والثواني الزائدة في تقرير مطول من 13 دقيقة كما هو متعارف عليه في عالم السمعي البصري (7 دقائق و 13 دقيقة و26 دقيقة و52 دقيقة ) يعني استخفاف بقدرة ونفَس الجمهور لمتابعة برامج القناة ، كما أن طبيعة الموضوع ونوعه هو ما يحدد ” الدقائق التي سيحولها الصحافي إلى مادة إعلامية صالحة للبث ، وعدد الدقائق التي يجب اختزالها لإعداد ” طبخة ” إعلامية تليق بمقام الحدث أو الموضوع .
هكذا هي الصحافة ، تختزل الدقائق والثواني إن كانت في قناة والمساحات الفارغة إن كانت في جريدة ، دون أن تخنق الجمهور بتململها كما تمنح له الوقت لقضاء فسحة بالعين المجردة والتجوال بين مشهد وآخر وبين تصريح وآخر وبين ثواني الفراغ التي تقدم للملتقي حرية تنفس الصعداء ، فوجبات الإعلام تشبه الوجبات الدسمة التي تستدعي تخصيص وقت للمشي ، أو كأس شاي دون سكر لتفكيك مواد تم استهلاكها في الجهاز الهضمي المعقدة ( الحالة الجزائرية ) ، حيث تحتاج وجبات الإعلام التي يتلقاها المشاهد يوميا إلى فرصة نمكن العقل من التجوال الفكري لتشكيل رأي أو التقاط معلومة ” نافعة ” .
في الإعلام ، 40 ثانية وحدها كفيلة بأن تقدم لك وجبة خفيفة نافعة ، لهذا فأقل من دقيقة وحدها قادرة على تشكيل الرأي العام ، والاستنجاد بأخلاقيات المهنة ومواثيقها التي تفرض خطوطا لا يمكن تجاوزها أهمها :” التحري ، الرأي والرأي الآخر” فما بالكم بالدقائق المتبقية التي نتلقفها كل يوم من 24 ساعة كاملة .. .
التدوينة إعلام الـــ 40 ثانية ظهرت أولاً على الجزائر 24.