لم تؤدي الانتفاضات التي شهدتها العديد من الدول العربية إلى سقوط الأنظمة التي وصفت بالمستبدة لعقود طويلة فقط، بل أسقطت كذلك القناع على العديد من الفضائيات الإخبارية والقنوات العربية والأجنبية على حد سواء، وهو ما يصفه خبراء إعلاميون بالإخفاق المهني، بعدما فشلت في التوفيق بين متطلبات السياسة وحق المتلقي في المعلومة الصحيحة والنزيهة. تجربة الفضائيات العربية التي بدأت على استحياء مع تلفزيون بي بي سي عربي عام 1994 والذي كان مشروعا مشتركا بريطانيا سعوديا، وتعزز مع قناة الجزيرة عام 1996، أتاحت للإعلام التلفزيوني فضاء واسعا للعمل الإخباري بعيدا عن سيطرة الحكومات، مما جعل من توخي الموضوعية والحياد والمهنية أمرا سهل التحقيق.
حينما بدأت احداث ما يسمى بالربيع العربي بدءا بثورة الياسمين في تونس وبعدها مصر مطلع عام 2011، بدت معظم القنوات الفضائية الإخبارية منحازة لمنطق الثورة، وكأنها تعوض عقودا طويلة من انحيازات الإعلام الوطني لسلطة الأنظمة الحاكمة. وبغض النظر عن حسن نية هذه القنوات في تأييد الثورات العربية، فإن الإعلام بدا ومع مرور الوقت وكأنه منتج للثورات، عندما ساهم في مرات عديدة في تصعيد الأزمات بدلا من تهدئتها. فبعد أن نجحت قناة الجزيرة في تغطية حرب أفغانستان عام 2001، شهدت الحرب على العراق عام 2003 تنافسا محموما بين القنوات التي كانت موجودة في تلك الفترة، لتبرز بعد ذلك تباعا العديد من القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية، حتى بلغت أعدادا قياسية تغطي كل واحدة منها الأحداث الدموية التي تعيشها العديد من البدان العربية على مقاسها خدمة لمصالحها ومصالح من يقفون وراءها.
الاختلاف في تغطية نفس الأحداث والانحياز السافر لجهة دون أخرى، جعل العديد ممن يتابعون الأحداث لا يملكون القدرة على التفريق بين الحق والباطل وبين الظالم والمظلوم. فقد تستخدم الوسيلة الإعلامية مصطلح “عملية انتحارية” وأخرى “عملية إرهابية” وقد تستخدم ثالثة “عملية استشهادية”. فواحدة تبارك هذه الهجمات وأخرى تشجب وتستنكر وتدين، ومرة يكون الاستنكار والرفض شديد اللهجة، وقد يكون لطيفا وربما متوسطا إذا تطلب الأمر ذلك. وقد تستخدم الوسيلة الإعلامية كلمة “إرهابي” وأخرى “جهادي” وقد تكتفي الثالثة بـ”المقاتل والمسلح”. الإعلام في وقتنا الحالي كذلك يمجد من يشاء ويجعل له شأنا ومقاما ويلبسه تاجا من ذهب، ويسقط من يشاء ويجعله قاتلا ومجرما ويجعل آخر أضحوكة الناس، الإعلام كذلك يسجن البعض ويعلق البعض الآخر في المشانق، بل قد يدمر آخر ويقضي عليه. ولم تتوقف سقطات السلطة الرابعة في الدول العربية وحتى الأجنبية عند هذا الحد، بل ساهمت في رفع أخطر التنظيمات الإرهابية إلى أعلى المستويات. ففي الإعلام إذا تطلب الأمر، لا وجود لثقافة التجاهل، عندما حول ما يسمى بتنظيم “داعش” إلى تنظيم مرعب وداء عابر للحدود يستحيل أن يهزمه أحد.
وتمكنت هذه القنوات ربما من إبراز حجم المعاناة في اليمن وحجم الدمار في سوريا والعراق، وحجم الأزمة في ليبيا، عندما تفننت في إظهار صور الرؤوس المقطوعة والأطراف المبتورة، وجثث الأطفال الهامدة والمتفحمة، دون أدنى اعتبار للمشاعر الإنسانية، لكنها عجزت عن تقديم الجاني الحقيقي والمسؤول الأول عن كل هذه الجرائم، ليدخل الإعلام كذلك حرب ولعبة المصالح التي لا بقاء فيها إلا للأقوى.
صحيح أن الحياد المطلق في الإعلام غير موجود بشكل عام، لكن الانحياز الفاضح والتمادي في تزييف الحقيقة، حول مفهومي المصداقية والموضوعية إلى حبر على ورق يدرس فقط في الجامعات. لتكون الشعوب هي الضحية التي لم تعد مجرد دمى في يد الحكام فقط، بل وفي يد الإعلام أيضا.