ظل مفهوم المثقف الجزائري غير ثابت ومطاط ومتعدد وغامض في أحيان كثيرة، ومن هنا كان الحديث عنه وعن دوره في المجتمع والتاريخ دائم الالتباس ومثير ا للجدل، وبرغم لجوء الباحثين في تاريخ المثقفين في الجزائر و في سوسيولوحيا "الانتجلنسيا" إلى إجتهادات و تنظيرات مؤسسة ( أبو القاسم سعد الله في تاريخه الثقافي،عبد القادر جغلول ،ملياني ،عبد المجيد مرداسي ...)سرعان ماكان بعضهم يقع ضحية مفاهيم ومصطلحات أكاديمية جاهزة ،مغرية، جذابة وخادعة ،كثيرا ما تكشف عن عدم نجاعتها بشكل واضح وصارخ، فمصطلح مثقف له علاقة ببيئته التقليدية ذات الأصول الغربية في حين ظل المجتمع الجزائري يفتقد إلى مثل تلك المرجعيات والمقاييس التي تجعل الحديث عن المثقف يأخذ معنى حقيقيا وعلميا في غاية الصعوبة والتعقيد، فالجزائر التي تعرضت للاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر،كان لديها نوعا خاصا من "المثقفين" التقليديين الذين كانوا امتدادا للمنظومة السياسية شبه الاقطاعية والعسكرية المهيمنة والسائدة والتي لم تكن تتكئ على مرجعيات حديثة كما هو الشأن اليوم ، كان المثقفون يتشكلون من القضاة ومستخدمو الادارة العسكرية وهيئاتها الدينية المصوغة لشرعية السلطة العسكرية الدينية المهيمنة والمسيطرة والمتشكلة وقتها من الدايات والبايات من ذوي الجذور الهجينة والذين اصبحوا بواسطة قانون القوة حكاما، وفي الفترة التي تلت سقوط دولة الدايات ،التف المتعلمون من المتدينين الصوفية حول شخصيات تنتمي في غالبها إلى عائلات لها علاقة بسلطة الدين الصوفي والرمزي،من القادرية مع الأمير عبد القادر الذي قاد المقاومة ضد الغزو الاستعماري مدة سبعة عشرة سنة قبل استسلامه، ومع عائلات الحداد والمقراني ولالة فاطمة انسومر المنتمية إلى الطريقة الرحمانية، ليخفت صوت "المثقف" التقليدي بعد محاولاته في عمليات التنديد بشراسة الاستعمار من خلال الشعر الشعبي والرسائل المستعطفة للرأي العام وللإدارة الكولونيالية الغالبة، وهذا الصوت كان ضئيلا ويكاد لاي سمع داخل المجتمع أو في أروقة الحكام الجدد،ومع مرور الصدمة واستيعابها من طرف المجتمع المهزوم، راحت بعض الأصوات تنبثق لتشكل ظاهرة المثقف/العالم الديني، وقد كان في مظهره متعددا ومختلفا بتعدد واختلاف مشاربه ورؤيته،فتارة هناك من يرى خلاص المجتمع في قبول قدريته وتارة اخرى هناك من يرى الخلاص في الفرار بالدين عن طريق الهجرة ،وفي ظل تصادم هاتين النظرتين عرف المجتمع الجزائري حركات هجرة نشيطة في نهاية القرن التاسع عشر وفي في بداية القرن العشرين..لكن مع نهاية الحرب الكونية الأولى سيظهر المثقف الجزائري/المعلم أو المتخرج من المدرسة الفرنسية والمتشبع بمبادئ الثورة الفرنسية، المثقف المنبهر بقرن الانوار وأسطورة العقل/الاله، وسيكون هذا الطراز من المثقفين شبه مفصول عن حياة أغلبية شعبه ثقافيا ومتوهما في أن الخلاص سيتحقق في الاندماج في الحضارة الغربية التي سرعان ماستصدمه برفضها له، وذلك ما سيسرع بخلق مثقفين من "الأهالي" يرون خلاص المجتمع في عودته إلى أصوله الثقافية والحضارية والتي ستختزل في العودة الى الدين،(دين جديد؟!) وسيعتقد هؤلاء الخلاصيين الجدد أن هذه العودة ستتحقق بواسطة تبني الاصلاحية التي حملت لواءها كل من الحنبلية الوهابية والاصلاحية الجديدة الممثلة في مشروع الافغاني/عبده من اجل اصلاح العقيدة و المجتمع.على حد سواء ..وسيكون للحرب العالمية الثانية وتداعياتها السياسية والايديولوحية تأثيرا عميقا على عملية إفراز هذا النوع من المثقفين الحداثيين المرتبطين بأكتيڥية العمل الوطني ذي الطابع الراديكالي والشعبوي التاريخي التقدمي وكان هؤلاء أقرب إلى النضالية السياسية منهم إلى منتجين للمفاهيم والتصورات والأفكار،وسيلعبون دورا ليس فقط في الدفع بالحركة الوطنية للتطور والتشكل بل أشتغلوا على تنويعها وتنشيطها بواسطة إدارة الأزمة التي ستنبثق من داخلها بين الفرقاء المنافسين على القمة ومن هنا سنجد طرازا معينا يمكن تسميته بالمثقف الميداني،التقنو_نضالي، تمثل في شخصيات عبان رمضان القادم من عصبة المركزيين داخل الحزب الوطني "حركة انتصار الحريات" وأوزڤان عمار القادم من الحزب الشيوعي الجزائري والمتحول الى الوطني المتشبع بالصبغة الدينية الاصلاحية والمارتينيكي فرانز فانون الذي سيضع الثورة الجزائرية ضمن منظومة الرمزيات الثورية الجديدة وفي مصاف الثورات شبه اليسارية غير الماركسية في القرن العشرين وكاتب ياسين ومحمد ديب ومالك حداد الذين سيمنحون نثرية خاصة لشعرية الثورة وبالتالي إقامة دلالة تاريخية لميلاد المثقف الجديد/ السارق مثل بروموثيوس لنار الحرية الحارقة لغابات كثيفة من زمن الاذعان والانقياد والخضوع والعبودية الكولونيالية..