أتذكر أنه يوم رافقت الجمع لتشييع الشيخ محفوظ نحناح رحمة الله عليه إلى مقبرة العالية طفرت من عيني دمعتين،لم ينتبه إليه أحد،كنت أقف بالقرب من شجرة وسط تلك الزحمة الصامتة التي كان ينطلق منه أحد الأصوات المشيعة،ولم تكن تلك الدمعتين عاديتين في حياتي،لأنهما ظلتا منقوشتين في الذاكرة الوجدانية الحية التي جعلتني أحتفظ بصورة هذا الرجل الذي تعرفت عليه عن كثب وأنا في بدايات عملي الصحفي المجنون في ظل زمن جزائري مجنون،سقطت في ظله كل الحواجز والممنوعات والسياجات وجدران العقليات،لم يكن الرجل عاديا في ذلك الزمن غير العادي،وأحمد الله على هذه النعمة الاستثنائية التي مكنتني ليس فقط الاقتراب من الرجل لأن الرجل كان بسيطا متواضعا في متناول كل من يريد الاقتراب منه،بل من تجاوز الحجاب الذي يجعلك لا تنتبه الى تلك العبقرية التي لا تقول اسمها ولا تكشف لك عن نفسها فيخيل اليك أنك أمام رجل عادي ، في الحقيقة هو من الرجال النادرين الذين يصعب تكرارهم ،وكلما مر وقت على اللقاء الا واكتشفت كم كنت محظوظا بتعرفي على هذا الشيخ الحكيم الذي لم يكن يجعل من حكمته تاجا على رأسه بل كان يخفيها ليجعل منها تجليا في سلوكه وكلماته التي كان يواجه بها نار الفتنة المستعرة بقلب مفتوح وضمير يقظ وعقل وقاد ووجدان صداح وعزم عتيد،وهذا ما كان يجعل منه مدرسة يصعب تعويضها قائمة في القلب وفي الوجدان والعقل قبل قيامها في الخطاب،مدرسة تتجدد في المواجهة المحاورة اليومية للخصوم من داخل وخارج الجبهة الوطنية والاسلامية،لم يكن الشيخ يشير الى اناه،بل كان يذوبها ويمحيها من الواجهة ليضمها الى مجموع الانوات التي تصب في ذات واحدة ومتعددة،هي الذات الوطنية وتلك كانت عبقريته في تجاوز آفاق الحزبية الى افاق الجماعة الوطنية بابعادها الانسانية واطيافها المتعددة،كان الشيخ يتحدث عن جدار وطني،ولم يكن في تلك مثل هذا المصطلح مفهوما عند حلفائه وخصومه،واعتقد اخرون ان الكلمة لاتخلو من بلاغة لغوية ليس الا،بينما كان الشيخ يفكر في لحظة قادمة تتمثل في استباق لحظة التشظي والانقسام التي قد تقود اليها السياسات الاقصائية والانعزالية،كان يفكر في تجنب الزمن الشبحي الذي اصبح اليوم ماثلا أمام اعيننا وبات يهددنا في وحدتنا وانسجامنا،ان هذه النظرة الثاقبة للاشياء والتنازل عن سلطة الانانية المهيمنة التي ستطغى على منطق الحكام هي ماجعلت من نحناح هذه الشخصية الاستثنائية التي حباني الله حظ التعرف عليها ،تعلمت منها النظر الى الاشياء بشكل مختلف ومستقل،يتجاوز الايديولوجيا ومنطق الاصطفاف،لقد تعلمت من الشيخ نحناح نقد الاسلاموية في نزعتها الصبيانية واحترامها في تجاوزها لنفسها عندما تفتح عقلها ونفسها بعد تجربة المحنة التي اكتوت بنارها على كل ماهو تصالح مع العقل ومع الحداثة كونها تعبيرا مكثفا عن نفسها كحدثات متعددة ومتجذرة في انيتها بدل ان تكون راية لحداثة واحدة ووحيدة وتسلطية..ان ذكرى نحناح هي كتاب المستقبل المفتوح،يتجاوز من هم محسوبين بقوة التقليد عليه،ومن يتجارون بتراثه،هو طريقنا الى بعضنا في تحمل عبء بعضنا بعض في سبيل سعادة الجميع