حقق مقالنا السابق عن (التمويل غير التقليدي) درجة مقروئية عالية، ما يعكس اهتمام القراء بموضوع الساعة، والذي ورد ضمن مخطط عمل الحكومة، وما يعبر أيضا عن شغف الجزائريين بالموضوعين الاقتصادي والمالي في أجواء يطبعها القلق من المستقبل. جدل غير مسبوق وأثار موضوع (التمويل غير التقليدي) جدلا غير مسبوق بين مختلف فعاليات البلاد، وظهر ذلك جليا في مناقشة نواب الأمة لمخطط عمل الحكومة، خلال هذا الأسبوع، وسط شكوك بجدواه في إدارة أزمة شح السيولة المتاحة لدى خزينة الدولة، وربما يعود هذا الجدل إلى الخلط بين محتوى الاقتصاد الكلي المتسم بحالة (لا توازن الأسواق)، ومحتوى التقنيات النقدية المتسمة بـ(العلمية)، حيث لا مبرر للجدل في موضوع تقني بحت. وبالفعل، تمثل آلية التيسير الكمي، المعبر عنها بالتمويل غير التقليدي، تقنية نقدية مبنية على الاقتراض من البنك المركزي الذي يحوز دائما على أصول تمكنه من إدارة السيولة في المصارف الأولية هي نفسها السيولة المستعملة في تنشيط الدورة الاقتصادية، من خلال حفز الطلب الداخلي لقطاع الأعمال والمستهلكين الذين هم دائما زبائن المصارف التجارية، ومن ثمة حفز عرض المنتجين الذين هم دائما ممونو المستهلكين، ولذا ارتبطت هذه الآلية في تجارب الدول بحالة الركود، انخفاض الأسعار عند الاستهلاك وانخفاض معدلات الفائدة. وظلت أهداف الدول في ممارسة هذا النوع من التمويل هي رفع التضخم، ومن ثمة أسعار الإقراض للسماح للمنتجين من تحقيق الأرباح المناسبة للتكلفة الحدية للإنتاج، والنتيجة في الأخير تجاوز حالة الكساد، وهو ما تحقق فعلا في كبرى الاقتصاديات التي تأثرت سلبا من الأزمة المالية الأخيرة (2007 – 2008). لماذا الخروج عن التمويل التقليدي؟ بكل بساطة لأن التمويل التقليدي يفترض سيولة كافية لدى المصارف الأولية تسمح بإدارة سعر الفائدة نحو الانخفاض، لحفز العائلات على الاقتراض وكذلك قطاع الأعمال، وهو ما يعرف بإدارة السياسة النقدية، ولكن العملية لن تكون سليمة دائما بالنظر إلى أزمة النظام الليبرالي في موضوع نظامه النقدي ونظام البورصات لديه، حيث تلعب آليات مضادة مثل (التوريق)، (بيع الديون) وانهيار التوظيفات المالية في البورصة دورا محوريا في شح السيولة لدى البنوك الأولية وشركات التأمين، ما يعيق عملية تمويل المستهلكين والمنتجين ويؤدي للكساد. حالة تتجاوز قدرة التمويل التقليدي على الإقراض ما أدى بالاقتصادي الألماني، رتشارد ويرنر، إلى اقتراح تدخل استثنائي للبنك المركزي الذي ليس من وظائفه أن يؤدي دور البنوك الأولية، لأنه (البنك الأخير) أو (بنك البنوك)، ومهمته الإصدار النقدي وإدارة السياسة النقدية وإعادة خصم ديون البنوك التجارية ومراقبة الاحتياطي الإلزامي لتلك البنوك، مع حيازة أصول مقابلة للذهب والنقد الأجنبي والقروض المقدمة للخزينة والبنوك. حالة الجزائر وفي حالة الجزائر يتعلق الأمر بعجز الخزينة على الوفاء بالتزاماتها تجاه السياسة المالية والاجتماعية للدولة، ولا علاقة للموضوع بالكساد أو شح سيولة البنوك الأولية التي لا تعاني حاليا من إفلاس المقترضين، بل من القروض المتعثرة أو تلك غير القابلة للاسترجاع، ومجموعها يلامس سقف 45 مليار دولار. يمكن للبنك المركزي الجزائري شراء أذونات الخزينة مقابل أصول حقيقية ومضمونة، ولكن لازال بإمكان الحكومة متسع من الحلول ضمن السياسة المالية (الجبائية) ذاتها للدولة بدل السياسة النقدية التي مازالت تسعف ضعف السياسة الجبائية منذ 2014، وذلك بسبب ميزتها النسبية في التمول من الثروة وليس من الاكتتابات المحاسبية أو السحب على المكشوف أو الدين الداخلي، خاصة مع طبيعة النظام الجبائي الجزائري المتسم بضعف التحصيل (13 بالمائة) وارتفاع معدل الضغط الجبائي بما يؤدي إلى أثر (لا فير) الذي هو التهرب الضريبي، إضافة إلى عدم مرونة الرسوم الجمركية وحاجة النسب الضريبية للمراجعة وفق أوعية جديدة، وهنا تبرز الحاجة لتعديل قانون الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة. يمكن للحكومة أيضا تطبيق الابتكار الجبائي لرفع التحصيل، ويكفي في ذلك استحداث وزارة منتدبة للجباية، كما يمكنها تطبيق اليقظة في تصميم قوانين المالية بمراجعة سياسة التحويلات الاجتماعية (16 مليار دولار) على سبيل المثال، وتكون بذلك قد عملت على منحى رفع الإيرادات وخفض النفقات في نفس الوقت. أما استرجاع السيولة الدائنة للبنوك والمستحقة على دافعي الضرائب والحقوق لصالح الخزينة فيكفي فيها إطلاق الدينار الجزائري الجديد وما يتبعه من اقتطاعات في إطار سيادة الدولة المالية.